د.أحمد يونس يكتب : نقوش علي حائط محكمة بمدينة ساحلية

حــلم الإنسـان القــرد المـعتدل القامة، إنسان الكهف الأول، فيما قـبل التاريخ بتاريخ، ما زال يراودنا في مــصــر إلى الآن. الحلم الأكثر قِدماً في لاوعي اللاوعي البشري. الأبهظ ثمناً منذ الـدُش الإنســاني الأولِ تـحــت الشلالات. الحلم الغائر بين خلايا أجزاء المخ المنقرضة، ما زال بعيداً عنا في مــصــر إلى الآن. لا أحد تعــلم شيئاً من قصة مــصــر المحروسة، منذ كتاب الموتى حتى موت الكتب على أرصفة الأزهر. لا أحد تعــلم شيئاً بالمرة.

ما زلنا نحلم في مــصــر القــرن الحـادي والعشـرين، بمكان آمن، لا تنهشنا فيه وحوش الغابة، وبشعلة نار نتدفأ بالليل عليها، وبشخــص ما أن تقع علينا عيناه، حتى يسألنا ملهوفاً:

ـ أخــبارك إيه؟

شخص يجزع حين يرانا نتألم، أو حين يداهمنا فـجـأة، حــزن غامض، لا ندري كم يـبـلغ عمره،أو كيف توغل فينا دون مقاومةٍ تُذكر، ولماذا لم نتمكن من إخفائه. شخص يعرفنا أكثـر مما نعرف أنفسنا:

ـ مــالك كـده مــش زي عــوايدك؟

شكلك ليه قلقان؟

لو كــان ليَ خاطر عندك،

إوعــى تكــون تعــبان!

شخص تتحسس يده جبهتنا ويقول:

ـ ألــف سلامة!

ما زلنا نحلم في البلد الأطول تاريخاً، بجــدار نرسم في لحظات الشجن عليه شوارع مزدحــمة، ومقاه وســلالم متهدمةً أو شرفات، يصبغها الشفق بلون دماء تتجلط، لا نذكر ماذا كنا نفعل فيها أو مع من،ونيونات تتلاعب بظلال المارة، وفسـاتين كقمصان الجبس،تنتظر هواء يناير حتى تتمرد،وضفــائر ألقوا القـبض عليها كي لا تتكلم، وشفاهاً جفت من طول الصمت. نرسم أطفالاً كانوا حتى الظهر مـجـرد أسرى بمدارسهم، ثـم إذا دق الجـرس يعودون إلى مـعـتقـل الأسـرة. ما زلنا نحلم في البلد الأطول تاريخاً،بجــدار نرسم في لحظات الشجن عليه يمامات بيضاء، فيها شــبه من جدات لم يكملن لنا الحدوتة، وتحـولن إلى برواز بالأبيض والأســود بين براويز الصالة. ما زلنا نحلم في البلد الأطول تاريخاً،بجــدار نرسم في لحظات الشجن عليه وجوهاً لا ننساها، وعيوناً تبحث عنا ونرانا فيها، ومـلامـح إنسان أدمنه القلب.

ما زلنا نحلم في أُم الدنيا حتى القرن الحادي والعشرين، بمجرد ريشة، نغمسها في حبر الأيام السوداء لنكتب شيئاً يشبهنا. ما زلنا في أُم الدنيا نتمنى أن نصنع قلماً من ريشـة بجـعة. قلماً لا يرضى أن يعمل قَواداً في قصر الوالي. لا يرضى أن يعمل جاسوساً لحساب الغرباء، أو في ديوان البصاصين برتبة مخبر. ما زلنا نحلم في أُم الدنيا حتى القرن الحادي والعشرين، بـنبـات كالبردي، لا يبلغ عنا لو صارحناه بلحظة ضعف عشناها. لا يضرب طفلاً بالمسطرة إذا هو يوماً شخبط فيه. لا يقطع رقــبة بنت أرهقها الكــتمان، فاعترفت منذ السطر الأول ،كيف ابتسمت بالأمــس لولد من خـلف الشيش. نحلم بـنبـات طيب، كالبردي، لم ينجح أحـد من ضباط مباحث أمن الدولة في تجنيده. ما زلنا نحلم في أُم الدنيا حتى القرن الحادي والعشرين، بمـسـاحـات أخرى، خارج مـنطـقـة نفـوذ المـمـلوك المغتصب السلطة،بمساحات لا تخضع لمراقبة كلاب الأجهزة السعرانة. بمساحات نكتب فيها أفكاراً قد تختلف مع المتوارث، أو قد تصـدم مـن يخشون البحـر لأن البحـر غـريب الأطوار، والمستنقع راكد، لا يتغير. قد تصـدم مـن يخشون البحـر لأن البحـر مــليء بالتيارات السفلية، والمــوج الهــادر، والجنيات،والمستنقع ساكن، مستسلم،ليست فيه عواصف. نحلم بمساحات نكتب فيها أشعاراً بالحــبر السري، ورســائل حب بالشفرة، ونغني ونبوح إليها بجـراحـات يامــا حاولنا أن نخفيها حتى عن أنفسنا. ما زلنا نحلم في أُم الدنيا حتى القرن الحادي والعشرين،بزمان لا يذهب فيه الإنسان إلى السجن، لمجرد رأي أبداه، مهما كان. بزمان لا تتلصص فيه على العشاق عيون الوالي من ثقب الباب. لا يتنصت فيه الأمن على من يتوجع عبر الإنترنت. بزمان لا تقتحم الشرطة فيه قلوب الناس، بحثاً عن كتب ممنوعة، خبأناها خلف الشـريان التاجي، أو قــصـة حــب لم نتحدث أبداً عنها، أو أســلحـة دمـار شامل. بزمان لا توجد فيه محاكم تفتيش، أو نخاسون بزي الكهنة، أو تجار عقائد وشعارات. لا نحلم ـلا سمح اللهـ بوطن حر. هذا ببساطة، يتنافى مع نص التعديلات الدستورية. الحلم بوطن حر، يُعتبر بكل بساطة، خرقاً لمواد القانون الخاص بتنظيم الأحلام.

ما زلنا نحلم في أُم الدنيا حتى القرن الحادي والعشرين، بزمان يتحقق فيه، حــلم الإنسـان القــرد المعتدل القامة، إنسان الكهف الأول، فيما قـبل التاريخ بتاريخ. الحلم الأكثر قِدماً في لاوعي اللاوعي البشري. الأبهظ ثمناً منذ الـدُش الإنســاني الأولِ تـحــت الشلالات. الحلم الغائر بين خلايا أجزاء المخ المنقرضة. الحلم بـأن نتحرر. الحلم بـأن ن ت ح ر ر.